الأربعاء 10-ديسمبر-2025 - 19 جمادى الآخر ، 1447

الانتفاضة بين الماضي والحاضر

104
2024-11-26

التعريف بالخطبة

تتحدث الخطبة عن بداية نضال الشعب الفلسطيني، وانتفاضاته المتكررة عبر السنين ضد الكيان الصهيوني الغاصب، وعن الخذلان العربي لهذا الانتفاضات، مع ذكر بعض أبطال المقاومة وأثر القرآن في صناعة الشخصية المناضلة.

عناصر الخطبة

أولا: متى بدأت الانتفاضة الفلسطينية؟

ثانيًا: مؤامرة إلقاء سلاح المقاومة.

ثالثًا: الوثيقة الفاضحة.

رابعًا: أثر القرآن في أهل فلسطين

خامسًا: قصيدة عفوًا سيدي

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي نصر عبده وأنجز وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.

وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله..

إني أحبكم في الله، وأوصيكم بتقوى الله (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2-3).

أيها الأحباب الكرام..

تقبل الله منّا ومنكم صيام رمضان، وقيام رمضان، وجعل عيدنا عيدًا مباركًا، وأعاننا على صيام الست من شوال، إيمانًا واحتسابًا، ليُكتب لنا صيام عام كامل بإذن الله رب العالمين.

ونحمد الله سبحانه وتعالى إذ أصلح كثيرًا من أمة محمد، حيث بلغ عدد المعتمرين هذا العام مليوني معتمر، ففي ليلة السابع والعشرين من رمضان صلى في الحرم الشريف المكي في ليلة القدر، بإذن الله، مليونا مسلم، يعجون بالدعاء إلى الله أن ينصر الله هذه الأمة، ويجمع شملها، ويوحد قيادتها وجيوشها، ضد أعدائها، هو ولي ذلك والقادر عليه.

هذه إرهاصات أن المستقبل لهذا الدين، فأبشروا عباد الله، فإن أمر هذا الدين متوجّه، ولا يهولنكم ما عليه الأمريكان والروس واليهود وأعداء هذا الدين، فإن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وديننا هذا دين عالمي، لا يحدّه الزمان والمكان، ولا البشر، ودين عالمي مثل هذا يحتاج إلى صبر طويل، وتضحيات أكثر، وأكبر، فاسألوا الله سبحانه وتعالى أن ينصر المجاهدين ويثبت الغرباء، ويكرم الشهداء، ويفك المأسورين من إخواننا المسلمين.

أحبابي في الله..

متى بدأت الانتفاضة الفلسطينية؟

انتفاضتنا المجاهدة في أرض فلسطين، هل هي الأولى؟ هل هي الأخيرة؟ الجواب: لا

فهناك انتفاضات كبيرة مرت، خاضها هذا الشعب المبارك المسلم، وهي تنطلق تحت صيحة الله أكبر، الله أكبر، ومنها ما استمر أطول مما عليه انتفاضتنا هذه، منها ما استمر سبعة أشهر.

 وبدأت الانتفاضة المجاهدة في فلسطين عام 1929م، كانت بداية هذه الثورة تحركات اليهود عام 1928م للاستيلاء على حائط المبكى.

أنشأ أهل فلسطين جمعية حراسة «الأقصى» ردًّا على عملية استيلاء اليهود على حائط المبكى 

وقام المسلمون في فلسطين بإنشاء جمعية حراسة «الأقصى» عام 1929م، وكانت هذه الانتفاضة ملبدة بالغيوم، وقام اليهود بمظاهرة مضادة استعراضًا لقوتهم، وما أعطاهم الإنجليز من سلاح حديث في ذلك الزمان.

فثار المسلمون من «الأقصى»، ومن كل مكان، والتحموا مع اليهود في 23 آب (أغسطس) 1929م، حيث اشتبك المسلمون العزل من السلاح مع اليهود المزودين بأحدث الأسلحة البريطانية.

وكانت وقفة بطولية سجلها التاريخ، وتعلّمت منها الأجيال تلو الأجيال، أن فلسطين إسلامية، وشعبها مسلم، لا يفرّط في إسلامه ولا في أرضه، وعمّ الغليان فلسطين كلها، وبدأت المعركة في حواري القدس، وأسرع الأبطال بالالتحام مع اليهود، فصرعوا 60 يهوديًّا في ذلك الوقت، واستنجد اليهود بالإنجليز، فحلّقت أسراب الطائرات الإنجليزية ترهب الناس، فوق «الأقصى»، وفوق الحرم القدسي، وكان أداء الصلاة في يوم الجمعة في أواخر أغسطس 1929م، وقاتل الشجعان الفلسطينيون يندفعون من قلوب مؤمنة راغبين في الشهادة، واستشهد من أبطال فلسطين في ذاك العام الشهيد فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم، وخرجت الأمهات الفلسطينيات بهذه الأناشيد الإسلامية، يُشدن بالشهداء والأبطال:

من سجن عكا خرجت جنازة

محمد جمجوم، وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا شعبي جازي

المندوب السامي وربعه عمومه

كانت هذه أغنية وأنشودة الأمهات الفلسطينيات في استقبال أرواح الشهداء في ذاك العام البعيد.

ثم في عام 1936، و1937، و1938م، حيث قام الشعب الأبي الفلسطيني في ذاك التاريخ، وأضرب لمدة 6 أشهر كاملة، بدأت من أبريل وانتهت في أكتوبر، وشمل ذلك الإضراب فلسطين كلها.

ثم بعد ذلك قام اليهود باستفزازاتهم العسكرية، ومعهم أيضًا بريطانيا؛ مما دفع المواطنين إلى الإضراب، وذكرى ثورة استشهاد عز الدين القسام كانت تغذي مشاعرهم الجهادية وتدفعهم إلى مواطن الشهادة، وقد تخلل الإضراب معارك مسلحة مع اليهود.

مؤامرة إلقاء سلاح المقاومة

وكانت نهاية هذا الإضراب المسلح الذي جاهد فيه الأبطال نتيجة رسالة وُجّهت من ملوك العرب في ذاك الزمان.

ماذا تقول هذه الرسالة الملوكية؟

«يا شعب فلسطين، ألق السلاح، إننا سنكفيك همّ عدوك اليهودي، وإننا نُحسن الظن والنوايا بصديقتنا بريطانيا».

فصدقهم ذلك الشعب، وألقى السلاح، وقطع الإضراب، وقطع الجهاد اتكالًا على هذه الرسالة التي وُجِّهت إليهم.

ثم كانت الخيانة بعد ذلك، حيث علم الشعب الفلسطيني أن تلك الرسالة كانت رسالة عميلة، لنصرة اليهود، ونصرة الإنجليز، فثار من جديد، واستشهد كثير من شباب ورجالات وقيادات الشعب الفلسطيني..

نُفي الحاج أمين الحسيني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، إلى جزيرة سيشل، مع عدد كبير من أعضاء اللجنة في ذاك الوقت، وحاول الإنجليز القبض على الحاج أمين الحسيني الذي اعتصم بالمسجد الأقصى، وهرّبه الأهالي إلى بيروت.

وحاصر البريطانيون المسجد، واستمر الشعب الصامد في تقديم الشهداء تلو الشهداء، فكان على رأسهم فرحان السعدي، رحمه الله، الذي استشهد صائمًا في يوم الجمعة، عن عمر يناهز الثمانين عامًا، فازدادت شعلة الجهاد والقتال ضد الإنجليز واليهود، وأمرت بريطانيا بقتل كل من يلبس الكوفية والعقال.

فأصبح اللبس الشعبي الفلسطيني دليلًا على التمرد على الإنجليز.

لهذا، والحمد لله، اليوم وخلال هذه الانتفاضة المباركة لا تكاد ترى أبناء الشعب الفلسطيني الذين هم في سن الأربعين فصاعدًا يلبسون غير الكوفية والعقال، لأنهم يعلمون أن هذا تحدٍّ منهم لذلك الشعب اليهودي الخبيث.

الوثيقة الفاضحة

ثم جاءت ثورة عام 1947 و1948م، وهذه الثورة والانتفاضة أشعل فتيلها ما حدث من تقسيم وخيانة الملوك والرؤساء العرب في ذاك الوقت.

وجدير بالذكر أنه في هذا الشهر الذي نحن فيه- تقريبًا- بثت محطة «بي بي سي» اللندنية وثيقة قديمة عمرها 40 سنة، هذه الوثيقة بُثت بمناسبة مرور 40 سنة على قرار الأمم المتحدة بإنشاء دولة جديدة على أرض فلسطين.

حاكم عربي يقول: أوافق على تقسيم فلسطين بشرط ألا أُحرج أمام العالم العربي

الوثيقة تثبت أنه قد جرى لقاءٌ بين جولدا مائير اليهودية، وحاكم عربي، يقول: «أوافق على تقسيم فلسطين؛ بشرط ألا أُحرج أمام العالم العرب».

وهذه اليهودية وافقت على إعطائه جزءًا من فلسطين، فاشترط عليها أن يكون هذا الجزء ضمن بلدته لا أن يكون ضمن أي دولة عربية أخرى.

اللقطة كانت قصيرة جدًا، ومدتها دقيقة أو نصف الدقيقة، والحوار مسموع، وتم بثه على التلفاز البريطاني بمناسبة مرور 40 سنة على دولة اليهود.

أي زعيم يريد أن تقف الانتفاضة بدعوى تبني الجهاد في فلسطين فهو خائن

لكن هذه الوثائق وإن مات أصحابها، فإنها حية العطاء، تربط بين الماضي والحاضر، وأبطالنا الصغار الكبار في فلسطين يعرفون ما لا نعرفه نحن، ولا تعرفه حتى الحكومات؛ بأن أي ركون بعد ذلك إلى زعيم يريد أن يتبنى الجهاد الفلسطيني لكي تقف الانتفاضة.. يعرفون أنها مؤامرة لإعادة التاريخ نفسه.

لهذا كنا نتعجب في بداية الانتفاضة الحالية؛ لمَ لا يطالب الشعب الفلسطيني الحكومات العربية والإسلامية بالمدد؟!

فعلمنا أنه سبقنا إلى الفهم، وسبقنا إلى السر، أنه لا يريد منهم شيئًا، يريدهم فقط أن يكونوا على الحياد، وإذا أرادوا أن يتكرموا فليفتحوا الحدود، أكثر من ذلك لا يريدون شيئًا!

بعد هذه المؤامرة، وبعد التقسيم، ثار الشعب الفلسطيني على قرار التقسيم عام 1947م، واشتعل فتيل الجهاد، بين اليهود والفلسطينيين، ورويت أرض فلسطين بدماء أهلها.

أثر القرآن في حياة أهل فلسطين

ثم بعد ذلك أيها الأحباب، كان من الأبطال الذين قادوا ذلك الجهاد، وتلك الانتفاضة المجاهد الشهيد عبدالقادر الحسيني رحمه الله، الذي أذاق اليهود الأمرّين، بأسلحة صدئة، أخذها ونبشها من بقايا الحروب، ونظفها وعدلها، وعلم أن وراءها قلوبا مؤمنة، استطاعت أن ترعب حتى الطائرات الإنجليزية في ذلك الوقت.

والذي عاش منكم في ذلك التاريخ، يعرف آثار هذا البطل، عبدالقادر الحسيني ومن كان معه.

ووالله إن الصدق والإخلاص والإيمان والسلاح الصدئ مع الإيمان ليفعل ما لا يفعله 77 جيشًا عربيًا وإسلاميًّا.

يوجد بون شاسع في فهم آيات القتال بين أهل فلسطين وبين باقي المسلمين

وكان يعرفون حقيقة الآية التي يعرفها أصحاب الانتفاضة اليوم، في المساجد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123). هذه الآية كانوا يعرفون حقيقتها بالأمس، ويعرفون حقيقتها اليوم.

أما نحن أمام حقيقة هذه الآية (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ)، جعلنا بيننا وبين الذين يلوننا من الكفار حواجز دستورية، وحدودًا دولية، وسيادات أرضية، وقوانين عالمية، تحجز بيننا وبين تنفيذ هذه الآية في واقع الجهاد الإسلامي، وكُتب في كل الدساتير الحرب الهجومية محرّمة، معناه إلغاء هذه الآية القرآنية إلى الأبد، القرآن يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) من صفات إيمانكم (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) وهذا الذي فهمه الصحابة في فتوحاتهم وسياحتهم في الأرض.

الخطأ الكبير الذي يقول: إنما شُرّع الجهاد الإسلامي دفاعًا عن الدولة الإسلامية، لا.. هذه فتاوى ظهرت في زمن العجز، ما شُرّع الجهاد الإسلامي لمجرد الدفاع عن الدولة الإسلامية وترك الكافرين آمنين، لا.. وإنما شُرّع الجهاد الإسلامي لتحطيم الحواجز بين الإنسان ومنهج الله، فكل طاغوت يقف بين الشعوب ورحمة الله النازلة يُكسّر رأسه كائنًا من كان، هذا الذي فهمه الصحابة، لهذا ساحوا يمينًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، كسّروا كسرى، وقصروا قيصر، ووصلوا حدود الصين، وفتحوا إفريقية، وطشقند وسمرقند، ووصلوا إلى أقصى الهند، لأنهم يعلمون حقيقة هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

هذه الحقيقة غابت عن صاحب هذه الوثيقة، فكان أثرها ممتدًا من أربعين عامًا إلى اليوم.. وأكثر ما يزعج اليهود هو قراءة هذه الآيات وأمثالها في الصلوات الجهرية، وخلفهم الصغار والكبار والرجال والنساء، اليهود يتمنون أن يحرفوا القرآن ويمسحوا منه هذه الآيات:

(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة: 111)، (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ) (آل عمران: 195).

قتال.. يَقتلون ويُقتلون.. قاتل ومقتول، وهذا هو الوضع الآن في فلسطين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) (التوبة: 38)، (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (التوبة: 39)، هذه نحن نتلقاها بقلوب باردة، باهتة، بعدما نسمعها، نذهب لنأكل ونشرب ونضحك وننام ونلهو ونذهب إلى الملاهي والصيد والبر والقنص.

هؤلاء في فلسطين، عندما يسمعون هذه الآية يخرجون من باب المسجد، وعندما يجد أحدهم في طريقه حجرًا يبادر إليه ويمسكه بيده، ثم يبدأ التنفيذ.. هذا هو الفارق الهائل بين من يتفاعل مع كتاب الله ومن لم يتفاعل معه، وعدم تفاعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله بسبب تلك المؤامرات التي امتدت منذ 40 عامًا وهي تخدر وتخدر وتخدر هذه الأمة، حتى أصبحت آيات الجهاد وآيات الحرب هي آيات الاستسلام والاستكانة أمام العدو.

والله سبحانه وتعالى يذكر أمثلة في القرآن أن المجاهدين المسلمين عبر التاريخ القديم والحديث، والأنبياء والرسل، ما كانوا ليستسلموا لأعدائهم في جميع حروبهم معهم، وإن قتل نبيهم، وإن قتل رسولهم، وإن قتلت القيادات العامة، يستمرون ويستمرون، شعارهم «موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (آل عمران: 146)، وفي قراءة: «قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ».

(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 146-147).

يسألون الله النصر على القوم الكافرين، ونبيهم مقتول، يسألون النصر من الله وقياداتهم الربانيون مقتولون.

يسألون من الله النصر على الكافرين؛ لأنه إن غابت قيادة النبي، وإن غابت قيادة الربانيين، فمنهج الله لا يغيب.

هذه هي الحقيقة التي يثبتها القرآن، واعلموا أن الله مع المتقين.

الشعب الفلسطيني يخوض انتفاضاته منذ 40 عامًا إلى يومنا هذا، لأنه كان، كلما دخل المسجد خرج منه بروح جديدة، وفهم جديد لآيات الله وكتاب الله، فتحوّل الحجر أقوى من العابرات والناقلات والراجمات.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصرهم بنصره، ويثبتهم بتثبيته، وينزل عليهم جنده وملائكته، هو ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا، وأستغفر لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده رسوله إمام المجاهدين، وحبيب رب العالمين.

أما بعد، أيها الأحباب الكرام..

وأمام أمثال هذه المؤامرات، كان الشاعر المسلم يصيح بأعلى صوته منذ زمن بعيد، يقول لتلك الوثيقة:

قصيدة عفوًا سيدي

عفوًا فلست بسيدي

حتى تكون رسالتي عنوانها يا سيدي

لو كنت سيد شعبنا

أو كان فيك دماؤنا

ما خنتنا في قدسنا

في أمسنا

في أرضنا

في المسجد

أأفر من غازٍ جبان

يا ويلتي من فعلتي

ماذا أقول لأمتي

ماذا أقول لزوجتي

ماذا أقول لإخوتي

ماذا أقول لكل أحفادي الصغار؟

ماذا أقول لكل أجدادي الكبار؟

لو كنت سيد شعبنا

أو كان فيك دماؤنا

لأمرتني يوم القتال

أن أستميت على الجبال..

أن أستميت على تراب الضفة

ألا أفرّط في تراث الأمة

أن أحمي قدسي والقيامة

يا فجيعة صخرتي

ألا أسلّم ألا أسلم أن أموت بموقعي

أن أموت بموقعي

من خلف مربض مدفعي

لكن أمرت جنودنا بالانسحاب

وتركت أهلي للذئاب

وشهيدنا طعمًا لمسعور الكلاب

لو كنت سيد أرضنا

أو كان فيك دماؤنا

ما كنت ترضى أن تصالح حارق الأقصى الشريف

ما كنت ترضى أن تكون لموشي ديان حليف

أوَلست تقتل إخوتي وكذاك يفعلها الحليف

أوَلست تهدم مثله أحياء تسكنها الألوف

أم أن فعل جنوده قذر وفعلكم نظيف

يا صاحب العرش المرصع بالجماجم والدماء

يا صاحب القصر المنيف

ما كنت يومًا سيدي

هذا صوت الشعب الفلسطيني أمام كل مؤامرة في القديم وفي الحديث.

ثم تأتي أيها الأحباب، انتفاضة عام 1976م، بدأت هذه الانتفاضة في ربوع «الأقصى» الشريف، وفلسطين، أواخر عام 1975 – 1976م، واستمرت 7 أشهر، أكبر وأطول من انتفاضتنا هذه؛ كانت ضد اليهود، وضد أعمالهم التعسفية، وعدم السماح لهم بدخول المسجد الأقصى، وكذلك ضد إجراءاتهم في الحرم الإبراهيمي، حيث دخل اليهود المسجد بنعالهم، عند قبر أبينا إبراهيم، دخلوا بأحذيتهم ونعالهم، وهم يزعمون أنهم ينتسبون إلى إبراهيم، ومزقوا المصاحف، والآيات القرآنية الكريمة، وقسموا الحرم الإبراهيمي إلى أخماس، 20% للعرب، و80% لليهود، وقد أدى ذلك إلى اندلاع انتفاضة في جميع ربوع الأرض المحتلة، وقد رد العدو على ذلك بإنزال ألف جندي بملابس الميدان، ويخرج عدد كبير من المتظاهرين، وقد أثبت الشعب الفلسطيني المسلم في تلك الانتفاضة هويته الإسلامية الخالصة، وأن جميع انتفاضاته هدفها تحرير «الأقصى» والقدس من أجل عزة الإسلام والمسلمين.

ثم جاءت انتفاضة عام 1979 – 1980م، وسببها إقامة المستوطنات «الإسرائيلية» ومصادرة الأراضي الفلسطينية..

أما انتفاضة عام 1980م فكان من دواعيها قانون فرض الوصاية على التعليم الوطني في الضفة، الذي يهدف إلى تهويد الشخصية الإسلامية الفلسطينية، وقد استخدم العدو الغاشم جميع أنواع القمع والتعسف، لدرجة أنه استعان بالخبراء الأجانب في كيفية القمع، واستمرت الإضرابات والمظاهرات، واستخدموا ضدهم العيارات المطاطية التي تؤدي إلى الشلل، والهراوات الكهربائية، وخراطيم المياه الملوثة بالميكروبات، والنجاسات، يرشونها على الشعب الفلسطيني، والمياه الساخنة، فاستمر المجاهدون في ثورتهم في ذلك الوقت، وكانت روحهم عالية، حيث يخرجون من المساجد وهم يقولون: لا إله إلا الله، الله أكبر.

ووضعوا بمطالبهم حدًا لجميع الإجراءات اليهودية التي كانت في ذلك الوقت.

ثم جاءت انتفاضة عام 1982 – 1983م، نتيجة أن العدو قام بإنشاء روابط القرى العميلة، ومحاولة فرض مشروع الإدارة المدنية؛ مما دفع الجماهير إلى القيام بمظاهرات عارمة في كل فلسطين، نواتها المساجد، مكبرة، ومهللة، ورافضة لتهويد فلسطين، وتهديد الشخصية الإسلامية لأهل فلسطين، ونتيجة لإطلاق مستوطن يهودي النار على المصلين في «الأقصى»، اندفعت المظاهرات هاتفة: الله أكبر، الله أكبر، في مارس 1982م، وكانت هناك محاولة جديدة لاقتحام المسجد الأقصى، حيث قام 29 مستوطنًا يهوديًا بمحاولة الاستيطان في المسجد الأقصى؛ مما فجر الجماهير الإسلامية، فتظاهرت معترضة على ذلك الاعتداء، وسقط في هذه الانتفاضة شهداء، من جميع الأعمار والألوان، رجالًا ونساء وكبارًا وصغارًا.

أيها الأحباب الكرام..

هذه لقطات سريعة عابرة، لما كان عليه الشعب الفلسطيني من جهاد وانتفاضات، فلا تعجبوا لما هو عليه الآن، وأخبار اليوم تفيد أن انتفاضتنا المجاهدة تتصاعد يومًا بعد يوم، فهم يلتحمون مع العدو، يلتحمون معه، يدًا بيد، سلاحًا بسلاح، ولا يهابون.. ولا تعجب أن ترى طفلًا في السادسة أو في السابعة تأتيه المجنزرة، وينزل المسلحون وهو واقف أمام اليهودي ويقول له: يا ابن القرد، يا ابن الخنزير، أطلق الرصاص، ويفتح صدره أمامه، أطلق الرصاص.. ماذا تنتظر يا جبان؟ واليهودي لا يطلق الرصاص؛ لأنه يعلم أن هذا الصغير إذا استشهد الآن ستتفجر الشهادة في قلوب الآلاف والملايين، يعلم أن قتله أمام الشعب الفلسطيني سيزيده إصرارًا وجهادًا وثورة وانتفاضة، إلى مدى لا يعلمه إلا الله.

وكم سمع إخواننا الشباب الذين جاءوا وبلغوني أن اليهود والجنود اليهود يبكون بعد أن يرموا قنبلة الغاز وقنبلة الأعصاب، حيث تأتيهم الزجاجات والأحجار، فيلوذون تحت الجدار، ثم يُسمع نحيبهم وتُرى دموعهم تنحدر من الرعب والخوف.

دعاء الختام

فنسأل الله أيها الأحباب الكرام أن يؤيدهم بنصره، ويثبتهم بتثبيته، هو ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفتح عليهم فتحًا مبينًا.

اللهم افتح بين المسلمين واليهود في أرض فلسطين، اللهم افتح بين المسلمين واليهود في أرض فلسطين، وأنت خير الفاتحين، اللهم افتح بيننا وبينهم وأنت خير الفاتحين، واحكم بيننا وبينهم وأنت خير الحاكمين.

اللهم انصر جندك وأولياءك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.

اللهم ثبتهم بما تثبت به عبادك الصالحين، إنك على ذلك قدير.

أما بعد، أيها الأحباب الكرام..

فإني أوصي نفسي، وأوصيكم في كل سجود وفي كل صلاة، وفي كل قيام، وفي دعاء الوتر، ألحوا في الدعاء، فإن الله قريب، وإن الله مجيب، وجعل الله للأقدار أقدارًا، وللبلاء دعاء، يعتركان بين السماء والأرض، فينزل اللطف بعد اللطف من الله ربع العالمين.

نسأل الله أن ينزل لطفه على إخواننا المجاهدين هناك، هو ولي ذلك والقادر عليه، ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة.

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

اذكروا والله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

تحميل