الأربعاء 10-ديسمبر-2025 - 19 جمادى الآخر ، 1447

رسالة المسجد

رسالة المسجد

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (النور: 36 – 38).

وأول ما قدم الحبيب صلى الله علسيه وسلم المدينة المنورة لم يبن بيتاً ولم يبن عمارة، ولم يبن نادياً ولا مسرحاً ولا ملعباً، إنما أول ما بنى، بنى بيت رب العالمين، وجاء صلى الله عليه وسلم يخط أرض المسجد، ويحمل التراب فينحدر على ظهره وصرته، والصحابة خلفه يكدحون في البناء ويرتجزون قائلين:

إن كنا نقعد والنبي يعمل

فذاك منا العمل المضلل

ولم يكن بناؤه للمسجد عبثاً، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الإنسان عندما يكون في بيت الله يتربى على الإيمان، ويتربى على الأخوة، والدول إن لم تقم على قاعدة الإيمان وتربي على الأخوة فلا بقاء لها لأنها لا تملك من مقومات الحياة، إنما ستكون كالنبتة الخبيثة التي تجتث من فوق الأرض، وصدق الله إذ يقول: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} (الأعراف: 57).

أسسوا دولهم على العلمانية، على المسارح، والملاعب، والملاهي، ولم يؤسسوها على بيوت الله، ماذا حدث؟ فتن كقطع الليل المظلم، يُقتل الإنسان، لا يدري لما قتل؟ تنتهب الأعراض، وتُسلب الأموال، وتهدر الدماء، ومحمد صلى الله عليه وسلم أول ما جاء المدينة وفيها اليهود والمنافقون وفيها الكفار، وفيها المشركون، وأقل عدد في هذه المدينة هي الأقلية المسلمة وهم المؤمنون مع محمد صلى الله عليه وسلم، ومع هذا انطلقوا من بيت الله رب العالمين، ففتحوا الجزيرة العربية، وأجلوا اليهود ووحدوا الله، وتحولت مكة أحب البقاع إلى الله والتي فيها أول بيت وضع للناس من أرض كفر إلى أرض إسلام، كل ذلك انطلاقاً من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: {في بيوت أذن الله أن ترفع} (النور: 36).

فهي ترفع بإذن الله لا بإذن أحد، لا بإذن الطواغيت، وإنما بإذن الله رب العالمين حتى تأخذ هيبتها من هيبة هذا الإذن، ومكانتها من مكانة هذا الإذن، وقيمتها من قيمة هذا الإذن.

إذاً، إذن الملك على بناء مكان ما يجرؤ أحد على مس هذا المكان بسوء أو يشير إليه بسوء، فكيف إذا أذن ملك الملوك قيوم السموات والأرض.

{أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور: 36).

ترفع من الشرك، من الضلال، من البدع، من الشقاق، من النفاق، ومن سيئ الأخلاق، ومن القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال في القاذورات والنجاسات، تنظف، تطيب، تنزه {أذن الله أن ترفع} (النور: 36).

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم لما بنى مسجده ماذا كان يقول لبلال؟ يقول: أرحنا بها يا بلال، فأصبحت الصلاة في هذا المسجد راحة للقلب، وراحة للروح، والجسد، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم ليست أمة قاعدة ونائمة ولا مترفة، ولا خاملة، إنما هي أمة جهاد وكفاح وتعب وكدح وعمل، لهذا إذا قال المنادي: حي على الصلاة، استمعوا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أرحنا بها يا بلال" فجاءوا يسعون إلى بيوت الله، نفضوا الدنيا خلف ظهورهم، واستقبلوا بيت ربهم، يستبشرون الله للقادمين إلى بيته وفرح واستقبلهم بوجهه وبدأت الملائكة تحصي خطواتهم خطوة بحسنة وخطوة تكفر سيئة، وخطوة ترفع درجة، فإذا دخلوا بيوت الله استغفرت لهم الملائكة، فهم في صلاة ما داموا ينتظرون الصلاة، فإذا صلوا غفر الله ذنوبهم ولو كانت مثل زبد البحر، فالله يغفر ما بين الصلاة والصلاة، وما بين الجمعة والجمعة، وما بين العمرة والعمرة، وما بين الحج والحج، وما بين رمضان ورمضان، فإذا خرجوا من بيوت الله عادت الملائكة تحسب خطاهم إلى بيوتهم كل ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

من يعطي مثل الله؟ أنت تأتي يوم القيامة وترى كفة الحسنات وكفة السيئات ورب خطوة خطوتها إلى بيت الله يقول عنها المحبوب صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (سنن أبي داود 1/133)، ورياض الصالحين ص 172).

فتجد أجر تلك الخطوة نوراً يسير معك في عرصات يوم القيامة، التي يقول عنها الشاعر:

ستنزف الدم لا الدمع

إذا عاينت لا جمع

تقل في عرصات الجمع

لا خالة ولا عم

إذا أجمعت لا دمع

هناك الجسم ممدود

ليستأكله الدود

حتى ينخر العود

في هذا المقام والظلمات بعضها فوق بعض، تأتي حسنات الصلاة تُنير لك الطريق، "بشر المشائين في الظلم – إلى المساجد – بالنور التام يوم القيامة"، فيأتون على الصراط والنور يسعى بين أيديهم بفضل قدومهم إلى بيوت رب العالمين {أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور: 36).

ولا يذكر مع اسم الله أحد في هذه المساجد، لهذا أول ما تربي هذه البيوت تُربي على التوحيد، فالتوحيد أكبر وأعظم حقيقة حلّت في قلب الإنسان على وجه الأرض أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لهذا يقول الله: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً} (الجن: 18)، لا تدعو مع الله أحداً، عباده، اعتقاد، توحيد، إسلام، إيمان، شرائع، اقتصاد، تجارة، تعلم، كل ذلك لا تدعو مع الله أحداً، لأنك في بيوت الله يُتلى عليك كلام الله فتسمعه من الإمام، فيعرف الصبي حقه، والحاكم حقه، ويعرف الوالد حقه، ويعرف الولد حقه، وتعرف الزوجة حقها، والمرأة حقها، والكبير حقه، كل يعرف حقوقه من خلال كتاب الله رب العالمين الذين يرتلونه بين الحين والحين في بيت الله يسمعون خلف الإمام، عند ذلك يدعون الله، ولا يدعون مع الله أحداً، والويل، الويل لمن ركع لله وسجد، وفي قلبه طاغوت، ولمن ركع لله وسجد لله وولاؤه لغير رب العالمين ورسوله والمؤمنين.

{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة: 55)، هذا هو الولاء في بيت الله، رب العالمين، لهذا نتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع قبيلة بني شيبان لما دعاهم إلى الإسلام، قالوا: يا أخا قريش إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قالوا: إذن إلى ما تدعو يا أخا قريش، قال: أدعو إلى قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل: 90)، قالوا: يا أخا قريش إنك تدعو إلى محاسن الأخلاق ومكارم الأخلاق، غير أن الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك، لأن الأمر الذي تدعو إليه أول ما تقول: {إن الله يأمر بالعدل}، والملوك لا يحبون العدل، يقول عنهم في كتابه: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} (النحل: 34).

لهذا قالوا: إن الذي تدعو إليه تكرهه الملوك، وبيننا وبين ملك الفرس عهد وميثاق، فإن شئت نصرناك على مياه العرب، ولكسرى والفرس نصرته على مياهه، إنهم يريدون وفد بني شيبان يريد أن يقسم العقيدة قسمين، قسم لله، وقسم لكسرى الفرس، ويريدون أن تقسموا الولاء والنصرة والتأييد قسمين، قسم لله، وقسم للملك، وللطاغوت الفرس الذي يعبد النار ويريدون أن يقسموا الشرائع، والشعائر قسمين، قسم لله، وقسم لطاغوت الفرس، ماذا قال لهم النبي صلى الله عليه سلم وهو الوحيد الطريد الذي جاء من الطائف ورجله تشجب دماً، قال لهم: ما أسأتم بالرد إذا أصفحتم بالصدق، إلا من أحاطه من جميع جوانبه، لا ينصر هذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه، السياسي الشعائر الاجتماعي الثقافي، كل ذلك إذا أحطت به تعتبر ناصراً للإسلام، وإلا فأنت تخدع نفسك وتخدع المؤمنين، وستكتشف الحقائق يوم القيامة، هكذا يعلمنا الله {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً} (الجن: 18).

لهذا نحن نوحد الله في أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله، في أسمائه، فتعلم أن اسم الله وصفة الله معناها معلوم وكيفها مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، نوحد الله سبحانه وتعالى بأنه إله واحد لا رب سواه، معناه في كل نسمة وحركة وعلم وتشريع {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة: 4)، هذا تعلمناه في بيوت الله، فتكون لنا عقيدة سليمة، مثل السلف الصالح من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يؤمنون بالله والجنة والنار ويوم القيامة، ومشاهد يوم القيامة، وأسماء الله وصفاته، ويؤمنون بالغيب: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام: 162)، كل ذلك يعلمنا المسجد إذا جئناه {أذن الله أن ترفع} (النور: 36)، ترفع من البدع، هناك مساجد في العالم تُبنى فيها أضرحة.

إذا مات الرجل الصالح بنو على قبره مسجداً، وجاؤوا يطوفون حول القبور، تجد المسلم الذي يحمل المصحف في جيبه وأطلق لحيته يذهب ويدخل المسجد وأول ما يصلي، يصلي ركعتين على الميت الذي في القبر، ثم يأتي يطوف حول الضريح ويتمسح عليه ويرجوه ويسأله ويتوب إليه ويرجو منه الرزق ويرجو منه المال والولد، ويستغيث به، يقول: مدد، مدد يا عبد القادر... إلخ، وينادونهم ولا يذكرون الله إلا قليلاً، أهذا دين؟

جاءنا الإسلام لكي نقول: لا إله إلا الله، كلمة نفي وإثبات في نفس الوقت، فجاءوا ووضعوا القبور في بيوت الله، وأحاطوها بسبات من ذهب وتأتي المرأة تنشر شعرها على القبر، وتقول: يا أيها الوالي الصالح، ارزقني صالحاً، ولا تسأل الله رب العالمين الذي بيده الخلق والأمر سبحانه، وإذا قلت لهم إن هذا شرك لا يجوز، شنوا عليك حرباً شعواء حتى إنهم يقتلونك ولا يبالون، ولعلك ترى أن المساجد التي بها أضرحة يكتبون عليها: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً} (الجن: 18)، وكل مسجد به إله أو إلهين يعبدون من دون الله.

القلب وعاء لا يدخل فيه حب الله إلا إذا نظفته من حب غيره، الوعاء إذا كان فيه ملح لا تستطيع أن تضع فيه سكر. كذلك القلب لا تستطيع أن تملأه بحب الرحمن إلا إذا طردت منه حب الشيطان والشهوة والهوى والدنيا، عند ذلك تحس بحلاوة الإيمان.

حديث: "ذاق حلاوة الإيمان من رضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً"، وهكذا يعلمنا الله: {أذن الله أن ترفع} (النور: 36)، ترفع من الجدل، كلنا بفضل الله نقف في صف واحد خلف إمام واحد، أمام رب واحد في قبلة واحدة، نسمع قرآناً واحداً، هذا فقير وهذا غني، هذا من جلدي، الله لم يجعل للكبار صلاة، وللصغار صلاة، وللأثرياء صلاة، وللفقراء صلاة، إنما الكل يأتي والبيت بيت الله، والأرض أرض الله، والسماء سماء الله، وليس بينك وبين الله واسطة، إنما تقول الله أكبر، استقبلك الله بوجهه إذا استقبلت القبلة، وقلت: الله أكبر، ولا يتركك إلا إذا التفت، انتبه إنك إذا دخلت بيت الله فاترك أسباب الفرقة، وخذ أسباب التألف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم بأفضل من درجة الصلاة والصدقة، إصلاح ذات البين هي الحالقة "منهم من يختلف على شريط، على كتاب".

{أن ترفع}، يدخلها لله بخشوع، لهذا قدم الله الخشوع {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون: 1 – 3)، اللهو الذي يأتي بالجدل، لغو الذكر والكلام، المسجد يأتي بالخشوع والفكر المستنير بالخير.

لهذا الدين حُفظ بطلبة العلم في بيوت الله، ما كانت عندهم مبرد بالصيف، ومدفأة بالشتاء، إنما كانت مساجدهم تُبنى من جريد النخل، وأرضهم مفروشة بالحصى، ويكتبون على ألواح الخشب.

ولكن أحدهم تأتيه البدعة من الصين فيقمعها بالسنّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيندحر الشيطان من بدعته فلا تقوم له قائمة، إذن لما فقد المسجد دوره في بث العلم وحلقات العلم، وطلب العلم، وتحول الحرم المسجدي إلى الحرم الجامعي، تخرج العلمانيون الذي أجدهم يحمل شهادة دكتور وهو لا يحفظ الفاتحة، ولا يعرفها، لأنه لا يصلي، لماذا يعرف الفاتحة.

يقول: الصلاة رياضة، أنا رياضي بدون صلاة، والصيام رجيم، أنا ما أحتاج رجيماً، ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لا أفعل، لا أحتاج.