الأربعاء 10-ديسمبر-2025 - 19 جمادى الآخر ، 1447
البيت السعيد
البيت السعيد
يقول صلى الله عليه وسلم: "من بات آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (رواه البخاري، رياض الصالحين، ص 97، والترغيب والترهيب 1/776، 4/302.
ألا إنها السعادة بالإيمان، بالرضا والإسلام، من بات في ليلة في أسرته بين أولاده في بيته، آمناً في سربه، لا يُخطف أولاده، ولا يُهتك بناته، ولا تخطف زوجته، كما يحدث في كثير من بقاع الأرض.
فكم من رجل خرج من بيته آمناً ودخلها مروعاً، من بات آمناً في سربه معافى في جسده، حتى تصبح الخبزة في فمه ألذ من أصناف الطعام.
معافى في جسده إنما تسعدُ بالعافية، جاء العباس وقال: يا رسول الله علمني داء أدعو به، فقال صلى الله عليه وسلم: "اسأل الله العافية".
يا عباس، يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سل الله العافية في الدنيا والآخرة، وهل الدنيا أكثر من ذلك؟ ورحم الله هارون الرشيد الذي جلس يوم فعطش فطلب ماء، فلما أُحضر الماء في كأس نظيف شفاف قال له قاضي القضاة: انتظر يا أمير المؤمنين لا تشرب، فقال: لما؟، قال: ما تقول لو منعت هذا الكأس وأنت أحوج ما تكون إليه، ماذا تفعل؟ قال: أشتريه بنصف ملكي، قال: اشرب يا أمير المؤمنين، هنيئاً مريئاً، فلما شرب قال: ما تقول يا أمير المؤمنين لو حبس فيك هذا الكأس؟ ماذا تفعل؟، قال: واله لاشترينه بنصف ملكي الثاني، قال: اشهدوا أيها الناس، إن ملك هارون لا يساوي شربة ماء.
علي بن أبي طالب إذا جاء لقضاء حاجته كان يقول في نفسه: "يا لها من نعمة منسية قليل شاكرها"، تدخل الحمام ولا تدري.
يقول المأمون وريث هارون الرشيد: أصبت يوما بمرض الحمى حتى عجز الأطباء عن شفائي، وما وجدت حيلة إلا فعلتها، وكل يوم أزداد سوءاً حتى أصبحت جلداً على عظم، فهانت الدنيا في عيني، وقلت لمن حولي: من يأخذ ملكي ويعطين العافية، لم أجد أحد يستجيب، فمل مني أطبائي، وزهد في أهلي وأولادي، فلما شارفت على الموت قلت لهم بصوت خفيض: احملوني ودعوني في بستان حديقتي على سرير، فإن جاءني أجلي كنت بعيداً عنكم، فقد زهدت فيكم وفي دنياكم، يقول: فحملوني في بستان بيتي ومرت علي ليلة يا لها من ليلة، كنت أرى فيها النجوم إذ شيء صحيح في جسدي غير عقلي وعيناي، ويا لها من ليلة تطول علي وأرى القمر مشرقاً في كبد السماء يقول: فبينما أنا كذلك، فإذا بعقرب رافعة إلي شوكتها، فأردت أن أصرخ فعجز لساني، فقلت: هذا الموت جاء، واستسلمت لقدري وصعدت على قائم السرير، وصعدت على رجلي وأنا أنظر حتى جاءت ودخلت بين ثوبي وجلدي، واستقرت في صرتي، ضربتني بشوكها فدارت الدنيا في عيني، وأغمي علي، ولم أفق إلا الضحى، وأنا أتصبب العرق، قد خرج مني وعادت العافية، فقلت: سبحان الله، لا إله إلا الله، الذي جعل الحياة مكان الممات، وجعل الخير يتفجر من الشر.
ويروى أن أحد السلاطين خرج مع وزيره يرافقه ويرفه عن نفسه متجولاً في مدينة، فلما خرج من الدور العامرة والقصور الفاخرة، فاراً من جمود الدنيا وصلابة المادة، مر على شيخ مر على بابه، سمع صوت الأطفال يضحكون، فقال: قف يا وزيري نستمع، قال الملك: من السعيد؟ قال السعيد جلالة الملك مولاي، يا مولاي، قال السعيد: شاب نشأ في طاعة الله، عنده زوجة يحبها، فسمع نداء الصلاة فجاء إلى المسجد لا نعرفه ولا يعرفنا، هذا هو السعيد، تعالى ندخل عليه، فدخلوا فرحب بهما وتيار البُنيات في إكرام الضيف، تخلع نعله والوسادة والطعام، وهو يتعجب فلما أكل اللقمة الهنية، لم يذق مثلها قط، قال أيها الوزير: أتعرف سر سعادة هذا؟ إن الدنيا لم تدخل في كوخه ولو دخلت لخربته، وأريك فيه عبرة.
فأخرج الملك من جيبه صرة مملوءة بالذهب وتركها وانصرف، وبعد أسبوع قال لوزيره: تعالى لنرى ما حدث لصاحب لكوخ؟ أهو كما علمنا أم الدنيا غيرت حياته، فقام وقرع على باب الكوخ، فإذا هو مظلم ولا صوت لضحكات البنيات، فطرق الباب ففتحت عجوز شمطاء، من أنت قال: أن صاحب لصاحب هذا الكوخ، جئت أطمئن عليه، قالت: يا حسرتاه على ولدي، جاءنا منذ أسبوع رجل أكرمناه واستضفناه فترك عندنا صرة فيها ألف دينار، فلما رآها ولدي لم يستقر له بال، مرة يضعها تحت شجرة، ومرة تحت الوسادة، في مكان بعيد، فيشك في زوجته، فيغير المكان بعيد، وزوجته قالت لي نصفها فطلقها، وذهبت إلى بيت أبيها هي وأولادها، وهو الآن كالمجنون لا يقر له قرار، يحمل الذهب على ظهره ويتجول به في كل مكان، فقال لوزيره: ألم أقل لك أفسدنا عليه حياته، وهكذا قال الشافعي:
إذا كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
والرسول صلى الله عليه وسلم كان أخوف ما يخاف على أمته من الدنيا، يقول: "إنما مثلي ومثل الدنيا كمسافر استظل تحت شجرة ثم تركها وانصرف" (رواه البيهقي).
كما رأينا من وجوه مشرقة ضاحكة مستبشرة والملايين تحيط بها من كل جانب ثم رأيتهم بعد أيام وجوهاً كالحة، ثم أعلنوهم في عالم المفلسين، سبحان من أعطى وأخذ {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (النحل: 96).
السعيد من أعطاه الله الدين والدنيا فعرف حق الله وحق الدنيا.
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص: 77).
ذات يوم قرأت فيما قرأت عن ممثلة تحكي قصتها يوم أن كانت لا شيء وهي زوجة لأحد الممثلين:
كنت آكل الفور والطعمية وهو أنور وجدي، وقصته، أنه دعا الله أن تأتيه الأموال وتصل إلى المليون حتى لو جاءه المرض، يستطيع دفعه بالأموال، جاءته المليون وجاءه السرطان في كليتيه، فما أغنت عنه الأموال في دفع المرض.
رحم الله الحسن البصري يوم أن قال: أيها الناس: ما تقولون في ليلة صبحها يوم القيامة: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} (النازعات: 46).
هذه هي الدنيا: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك} (الكهف: 46).
ويأتي صلى الله عليه وسلم فيقول: الباقيات الصالحات هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن أقول ذلك خير لي مما طلعت عليه الشمس، كثير من الناس يعلمون ولكن لا يقولون، السعي من وفقه الله، ولسانك رطباً بذكر الله.
رحم الله ابن القيم يوم قالك "وزهدني في الدنيا ثلاث آيات في كتاب الله {أفرأيت إن متعناهم سنين. ثم جاءهم ما كانوا يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} (الشعراء: 205 – 207)، أين القياصرة؟ أين الرومان؟ أين الأكاسرة؟، أين الإغريق؟ أين تدمر وأشور والساسانيون؟ سادت ثم بادت، قرون سكنوا القصور الرخاميات، وألذ الفتيات، ثم جاءهم هادم اللذات.
يقول أبو العتاهية: الشاعر الزاهد العابد:
أين القرون الماضية تركوا المنازل
خالية قصورهم الآن خاوية
الحديث: "عجباً للجنة كيف نام عنها طالبها، وعجباً للنار، كيف نام عنها هاربها" (رواه أحمد).
السعادة نأخذها من قول الله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: 58).
وتأخذها من قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}.
نحن لا نعلم متى ينتهي الأجل، ألا تحب أن يناديك الله {يا أيتها النفس المطمئنة} (الفجر: 27)، والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
استمع كيف وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن ما يقل (يحمل) ظفر ابن آدم من تراب الجنة لترقرقت له خوافق السموات والأرض" (رواه الطبراني)، أي مادة صنعت، وأي جمال فيها؟ لا عجب إنه الله ذو الكمال المطلق، استمع وهو يصف أهلها: {إن الأبرار لفي نعيم. على الأرائك ينظرون. تعرف في وجوههم نضرة النعيم} (المطففين: 22 – 25).
شاعر يصف السعادة في الدنيا: رغيف خبز واحد تأكله في زاوية، وكوز ماء بارد، تشربه من ساقية وغرفة نظيفة.
والإنسان عندما يتفكر في قوله تعالى: {فمن زحزح عن النار} (آل عمران: 185)، لها إيحاء عجيب، كأن النار لها شهيق، والملائكة والناس يتملصون، فإذا دفعتهم في الجنة أحسوا بالفوز {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (آل عمران: 185).
لنستمع كيف وصف أبو العتاهية:
نسينا وغفلنا لحظاتنا الحاسمة
رُبّ مذكور لقوم غاب عنهم نسوه